يحيى الشيخ المتمرد على قرينه

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
15/06/2008 06:00 AM
GMT



 
 
1
في أعماق يحيى الشيخ لا يزال يقيم شبح الحفار الذي كانه يوما ما. قرينه الذي يسعى إلى التلصص عليه. وإذا ما كان الشيخ قد أكتسب من منافيه المتلاحقة عادات كثيرة وجدت أمامها الطريق التي تؤدي إلى الرسم سالكة، فان حساسية ذلك الحفار إزاء المادة لم تفارقه لحظة واحدة. فكرته عن يده التي ترتجل خيالها وهي تمس المادة ظلت تثري عينه بهباتها البصرية. تغيرت موضوعاته، تغيرت أشكاله، ومواده هي الأخرى تغيرت، غير أن ما لم يتغير فيه حاجته إلى أن يلتفت إلى ذلك القرين ليستلهم من نظراته القوة. ثقته بالحرفة هي نوع من الإيمان بقيمة الكدح الإنساني. لقد تربى هذا الفنان في حاضنة تقدس العمل. لذلك نراه لا يرهن نتائج عمله للصدفة، كما يفعل سواه من الحفارين. كل ما يظهر في رسومه يؤسس لمعنى دقيق وصارم، غير أن معانيه تلك ليست من النوع التي يكون يسيرا اقتفاء أثرها، لا لأنها غامضة، بل لأنها تسترسل في التعرف على وجوهها المتعددة كما يفعل الرسام نفسه، وهو يقيم خارج ذاته ليراقب تحولاته الداخلية. منذ زمن بعيد لم يعد الشيخ مأخوذا بالمعاني الكبيرة. كان ذلك التحول انعكاسا لهجراته القلقة، حيث صارت روحه مأوى لأشياء بالغة الصغر، هي أدواته التي صارت بمثابة حواسه الداخلية التي يستند إليها حدسه. عادات المنفي جعلته أكثر ثقة بالمتاح الزائل، حيث رهان العيش يتخذ طابعا أسطوريا. في بداياته كان الإنسان بالنسبة ليحيى الشيخ عنوانا للتحول فصار فيما بعد مادة لخيارات ليس من اليسير حصرها. هل الانسانوية صفة أم فعل؟ أعتقد أن هذا السؤال ظل يعذبه وهو يرافقه في تيهه الذي لم ينته حتى هذه اللحظة. في ستينات القرن الماضي حضر يحيى الشيخ في المشهد التشكيلي العراقي باعتباره فاتحا مجددا، كان الإنسان المتفوق هو وصفته التي كان يشعر الكثيرون إزاءها بالرهبة والاحترام، غير أن الشيخ سرعان ما أكتشف من خلال تجربته الشخصية وهو الحريص على محاكمة ذاته بصدق أن تأملاته البصرية تلك هي تجسيد لطوباوية لم يكتب لها النجاح، وأن الإنسان لا يزال كائنا تجريبيا. يومها صارت رسومه مختبرا لانتاج المراثي، وهي صنعة سعى الشيخ إلى تغليفها بقدر واضح من الخفة. حزين يحيى الشيخ من أجل إنسانية فارقت رشدها ولن تعود إليه أبدا.
2
يسمي يحيى الشيخ أشعاره قصصا، فماذا يسمي رسومه؟ في كلا الحالين (الرسم والشعر) يمتلك الشيخ لغة مقتضبة بقوة، مشدودة بتوتر هي عدته في مواجهة التفاصيل التي يتشكل منها يومه العابر. لغة لا تصلح للوصف، بل للخلق. هي لغة المشاء المتأمل الذي تعده عاطفته بهبات بصرية هي مزيج من أشياء محتها العين بالنظر وأشياء أخرى مرت بشكل عابر كما لو أنها لم تكن. مخزن مرئيات ماكر، يستخرج منه الرسام أشكالا تعينه على أن يكون موجودا في لحظة التهلكة، التي هي ليست سوى لحظة الرسم. ذلك لان رسوم الشيخ مثل أشعاره لا تظهر ما تستهلكه، بل صورة عن ذلك الشيء، لا تشبهه بقدر ما تذكر به، تزيح عنه كل ما يمكن أن يجعله متاحا وقابلا للتوضيح لتكشف عن قدرته على أن يكون موقعا للذة مفارقة. غالبا ما يعنون الشيخ رسومه بكلمات لا تشير إلى معنى مباشر، فهو من خلال العنوان إنما يسعى إلى الرسم في الفراغ. ما لم تقله الصورة، تسعى الكلمات إلى التقاطه، ولكنها محاولة غالبا ما تؤدي إلى ولادة مساحة غامضة مضافة. دائما هناك حبل متوتر يمتد إلى فراغ ولا يمكنه سوى أن يكون مصدرا للارتباك. يسمي الشيخ رسومه بما يضفي عليها حيرة تنبثق من أعماقها.
3
يقبل يحيى الشيخ على الرسم كما لو أنه لم يرسم من قبل أبدا. فيما قرينه يراقبه بتشف. "هذا ما فعلته بنفسك ولم يفعله أحد بك". لقد سرقه الرسم من حياته، شرده، شظاه، عذبه، وقف به على حافات هاوية لا قرار لها. وها هو يرد إلى الرسم قسوته من خلال شق عصا الطاعة. "لن أكون مثلما تحب، خذ الرسام الذي كنته إلى التاريخ، واترك لي مزاجي حرا" يصنع الشيخ ما يحب وهو يستولي على مناطق لم يكن الرسم معنيا بها يوما ما، يمشي بقدمين توحيان بأنهما تتعلمان المشي لأول مرة، يدرب حواسه لكي تصد كل ما تتمكن من التقاطه. يجهر باختلافه لكي يضني قرينه، ذلك الكائن الذي يعرف أن يحيى سيعود إليه في لحظة اشتباك الخبرة بالمعرفة. وإذا ما كان الشيخ يتبع خطى الصوفيين في تعرفهم الحدسي فإنه لا يخفي ميله إلى خبرة، قد تكون بمثابة فخ لا مفر من الوقوع فيه. ولان يحيى هو أبن التجربة، فانه يضع كل خبرة موضع المساءلة. يزن الذهب بميزان غنجه، ويقيس المسافة بينه وبينه العالم بدرجات حريته. شبح الحفار الذي يرافقه لا يثنيه عن المضي في أخطائه، وهي أخطاء يقف الرسام أمامها بإجلال. فهي التي صنعت منه الرسام الذي صاره. يحيى الشيخ ليس ابن حرفته بل هو صنيعة خياله المتمرد. الرسام الذي ينبعث كل لحظة من بين تفجرات المواد هو داعية جمال استثنائي لا يزال في طور تشكله.
4
غالبا ما يعبر يحيى الشيخ عن حيرته وهو يسعى إلى تفسير ما يفعل. فالمادة التي يلهمه خيالها فكرته عن الرسم، هي شريكته في الفعل الممتنعة عن البوح. في هذه الشراكة يقيم الاثنان حوارا سريا، تنتج عنه أشياء كثيرة قد لا تجد طريقها إلى الفن. فالشيخ الذي يعلي من شأن متعويته وهو يعمل أو يفكر بالفن على حد سواء،لا تسحره النتائج المباشرة التي ينتهي إليها وحدها، بل يعنى بما يصيب روحه من تحولات بسبب امتزاج يديه بالمادة التي يعمل عليها. ومثلما يستخرج من أعماق تلك المادة ما يسره فإنها هي الأخرى تستخرج من أعماقه ما يشبع غرورها. فضيحة مزدوجة يتبادلها ساحران يقيمان عند الحدود القصوى من الانفعال. وحين يجد يحيى الشيخ حيزا مناسبا لعرض بعض أعماله في الطبيعة فانه لا يتأخر عن القيام بذلك تجسيدا لرغبته في إعادة المادة إلى فضائها الأصلي. ربما يسعى الشيخ أن يلقي عن كاهله أثقالا وهو يزيح أعماله بعيدا عن صفاتها الفنية حين يتركها للطبيعة ليراها من وراء حجب، كما لو أنها تولد هناك ثانية. في إمكان مواده أن تعود إلى فضائها الطبيعي بيسر، ذلك لان الفنان لم يهدم تكوينها الكيميائي بقدر ما سعى إلى الاحتفاء وهو يختبر قدرتها على أن تتحول. وهو اختبار يجريه الفنان على نفسه، رغبة منه في أن يكون الآخر الذي يصل إليه بين دروب متاهته. المتمرد على قرينه لا يمانع في أن يكون أي آخر سوى ذلك القرين.